تفسير الأية ,43 سورة النور
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِن جِبَالٍ فِيهَا مِن بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَن يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَن مَّن يَشَاءُ ۖ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ (43)
سحب ركامية |
تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي
قوله تعالى: { أَلَمْ تَرَ } [النور: 43] يعني: ألم تعلم، وقد وقفنا مع تطور العلم على كيفية تكوُّن المطر بين التبخير والتكثيف الذي يُكوِّن السحاب، وقلنا سابقاً: إن مُسطح الماء على الأرض ثلاثة أرباع اليابسة حتى تكفي هذه المساحة البخر اللازم لتكوّن المطر، ونحن نُجري مثل هذه العملية في تقطير الماء حين نغلي الماء ونستقبل البخار على سطح بارد، فتحدث له عملية التكثيف.
وقد أوضحنا هذه العملية بكوب الماء حين تتركه ممتلئاً وتسافر مثلاً، فحين تعود تجد الكوب قد نقص قليلاً، أما إذا أرقْتَهُ على الأرضِ، فإنه يجفُّ سريعاً، وقبل أن تغادر المكان، لماذا؟ لأنك وسََعْتَ مساحة البَخْر.
ومعنى { يُزْجِي سَحَاباً } [النور: 43] أي: يرسله برِفْق ومَهَل؛ لذلك لما وصف الشاعر مَشْي الفتاة قال:
كَأنَّ مِشْيَتَها مِنْ بيْتِ جَارَتِها مَرُّ السَّحابَة لاَ رَيْث ولاَ عَجَل
{ ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ } [النور: 43] أي: يجمع بعضه على بعض، وحين يُجمع الشيء بعضه على بعض لا بُدَّ أن يبقى بينه فاصل، فلا يلتحم بغيره التحاماً تاماً، ولولا هذه الفواصل بين قِطَع السحاب، ولولا هذه الفتوق ما نزل الوَدَق من خلاله.
ولو شاء سبحانه لجعل السحاب قطعة واحدة، ولكنه سبحانه يؤلف بينه ويُجمِّعه بعضه على بعض دون أنْ يُوحِّده تكويناً، فيحدث بذلك فراغاً بين قطع السحاب. أرأيتَ حين نلصق الورق بالصمغ مثلاً فمهما وضعت عليه من ثقل لا بُدَّ أن يبقى بينه فراغات؛ لأنه ليس ذاتاً واحدة.
وعملية تفريغ الهواء هذه تلاحظها حين تضع كوباً مبلولاً وتتركه لفترة، فيتبخر الماء من تحته ويخرج الهواء، فإذا أردْتَ رفعه وجدته صعباً لماذا؟ لتفريغ الهواء من تحت قاعدة الكوب، وفي هؤلاء الذين يعالجون الآلام الناتجة عن البرد، فيضعون الكوب مقلوباً على مكان الألم، ثم يُشعِلُون بداخله قطعة من القماش مثلاً لتحرق الهواء بداخل الكوب.
وبذلك نمنع الخلل في التقاء الكوب بالجسم، وهذه المسألة هي سِرُّ عظمة قدماء المصريين في البناء، حيث تتماسك الحجارة دون وجود (مونه) تربط بينها.
إذن: وجود الهواء بين الشيئن يُحدِث خللاً بينهما، ولولا هذا الخلل في السحاب ما نزل منه الماء، والمطر آية عظيمة من آيات الله لا نشعر بها، ولك أنْ تتصور كم يُكلِّفنا كوب الماء المقطّر حين نُعِدُّه في المعمل، فما بالك بالمطر الذي يسقي الأرض كلها؟
ثم يقول تعالى: { ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَاماً } [النور: 43] يعني: مُكدَّساً بعضه على بعض، وفي آية أخرى:
{ وَإِن يَرَوْاْ كِسْفاً مِّنَ ٱلسَّمَآءِ سَاقِطاً يَقُولُواْ سَحَابٌ مَّرْكُومٌ }
[الطور: 44] متراكم بعضه على بعض { فَتَرَى ٱلْوَدْقَ } [النور: 43] أي: المطر: { يَخْرُجُ مِنْ خِلاَلِهِ } [النور: 43] أي: من خلال هذه الفجوات والفواصل التي تفصل بين السُّحُب.وهذا الماء الذي ينزل من السماء فيُحيي به الله الأرض قد يأتي نقمةً وعذاباً، كما قال سبحانه: { وَيُنَزِّلُ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مِن جِبَالٍ فِيهَا مِن بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَن يَشَآءُ وَيَصْرِفُهُ عَن مَّن يَشَآءُ } [النور: 43] ولنا في أهل مأرب الذين أغرقهم الله عبرةٌ وعظة.
ولو تأملتَ لوجدتَ الماء والنار عدويْن متقابلين يصعب مقاومتهما؛ لذلك كان العرب إلى عهد قريب يخافون الماء لما عاينوه من غرق بعد انهيار سدِّ مأرب؛ لذلك آثروا أنْ يعيشوا في الصحراء بعيداً عن الماء.
وبالماء نجَّى الله تعالى موسى ـ عليه السلام ـ وأغرق عدوه فرعون، ففعل سبحانه الشيء وضده بالشيء الواحد.
وقوله تعالى: { يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِٱلأَبْصَارِ } [النور: 43] أي: الضوء الشديد الذي يُحدِثه السحاب يكاد أن يخطف الأبصار، وفي البرق تتولد النار من الماء؛ لذلك حينما يقول تعالى:
{ وَإِذَا ٱلْبِحَارُ سُجِّرَتْ }[التكوير: 6] فصدِّق هذه الآية الغيبية؛ لأنك شاهدت نموذجاً لها في مسألة البرق.
تفسير بن كثير
يذكر تعالى أنه يسوق السحاب بقدرته أول ما ينشئها وهي ضعيفة وهو الإزجاء، { ثم يؤلف بينه} أي يجمعه بعد تفرقه، { ثم يجعله ركاما} أي متراكماً أي يركب بعضه بعضاً، { فترى الودق} أي المطر، { يخرج من خلاله} أي من خلله، وقوله: { وينزل من السماء من جبال فيها من برد} قال بعض النحاة: { من} الأولى لابتداء الغاية، والثانية للتبعيض، والثالثة لبيان الجنس، ومعناه أن في السماء جبال برد ينزل اللّه منها البرد، وأما من جعل الجبال ههنا كناية عن السحاب فإن من الثانية عنده لابتداء الغاية لكنها بدل من الأولى واللّه أعلم، وقوله تعالى: { فيصيب به من يشاء ويصرفه عن من يشاء} يحتمل أن يكون المراد بقوله: { فيصيب به} : أي بما ينزل من السماء من نوعي المطر والبرد، فيكون قوله: { فيصيب به من يشاء} رحمة لهم { ويصرفه عمن يشاء} أي يؤخر عنهم الغيث؛ ويحتمل أن يكون المراد بقوله: { فيصيب به} أي بالبرد نقمة على من يشاء لما فيه من إتلاف زروعهم وأشجارهم، { ويصرفه عمن يشاء} رحمة بهم، وقوله: { يكاد سنا برقه يذهب بالأبصار} أي يكاد ضوء برقه من شدته يخطف الأبصار إذا اتبعته وتراءته، وقوله تعالى: { يقلب اللّه الليل والنهار} أي يتصرف فيهما فيأخذ من طول هذا في قصر هذا، حتى يعتدلا، فهو المتصرف في ذلك بأمره وقهره وعزته وعلمه، { إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار} أي لدليلاً على عظمته تعالى.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق